فصل: المقالة الأولى بعد المقدمة في بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الرابع في ذكر وظائف ديوان الإنشاء بالديار المصرية وما يلزم رب كل وظيفة منهم فيما كان الأمر عليه في الزمن القديم واستقر عليه الحال بعد ذلك:

أما في الزمن القديم فقد ذكر أبو الفضل الصوري في مقدمة تذكرته أن أرباب الوظائف فيه على ضربين:

.الضرب الأول: الكتّاب:

وقد عداهم إلى سبع كتّاب:
الأول: كاتب ينشئ ما يكتب من المكاتبات والولايات تتصدى للإنشاء ملكته وغريزة طبعه. قال: ويجب أن يكون هذا الكاتب لاحقاً بصفات متولي الديوان بحيث يكون كاملاً في الصفات، مستوفياً لشروط الكتابة؛ عارفاً بالفنون التي يحتاج إليها الكاتب، مشتملاً على التقدم في الفصاحة والبلاغة، قوي الحجة في المعارضة، واسع الباع في الكلام بحيث يقتدر بملكته على مدح المذموم وذم المحمود وصرف عنان القول إلى حيث شاء، والإطناب في موضع الإطناب، والإيجاز في موضع الإيجاز؛ فإنه أجل كتاب الديوان، وأرفعهم درجة لأنه يتولى الإنشاء من نفسه، وتلقى إليه الكلمة الواحدة والمعنى المفرد فينشئ على ذلك كلاماً طويلاً، ويأتي منه بالعبارة الواسعة، وهو لسان الملك المتكلم عنه، فمهما كان كلامه أبدع، وفي النفوس أوقع عظمت رتبة الملك، وارتفعت منزلته على غيره من الملوك. وهو الذي ينشئ العهود والتقاليد في الولايات والكتب في الحوادث الكبار، والمهمات العظيمة التي تتلى فيها الكتب على صياصي المنابر ورؤوس الأشهاد: فقد حكي أن يزيد بن الوليد كتب إلى إبراهيم بن الوليد، وقد هم بالعصيان: أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فاعتمد على أيهما شئت والسلام؛ فكان سبباً لإقلاعه عما هم به.
الثاني كاتب يكتب مكاتبات الملوك عن ملكه وقد شرطه فيه مع ما شرط في المتصدي للإنشاء المتقدم ذكره- إن كان هو الذي ينشئ المكاتبات بنفسه عن الملك- أن يكون على دين الملك الذي يكتب عنه ومذهبه؛ لما يحتاج إليه في مكاتبة الملك الخالف من الاحتجاج على صحة عقيدته، ونصرة مذهبه، وإقامة الدلائل على صحة ذلك، ولن يحتج للملة أو المذهب من اعتقد خلافه بل المخالف إنما تبدو له مواضع الطعن لا مواضع الحجاج. وكذلك أن يكون من علو الهمة، وقوة العزم، وشرف النفس بالمحل الأعلى، والمكان الأرفع؛ فإنه يكاتب عن ملكه، وكل كاتب فإنه يجره طبعه وجبلته وخيمه إلى ما هو عليه من الصفات. فكلما كان الكاتب أقوى جانباً وأشد عزماً وأعلى همة، كان على التفخيم والتعظيم، والتهويل والترغيب والترهيب أقدر، وكلما نقص من ذلك نقص من كتابته بقدره؛ وأن يكون عالماً بقدر طبقة المكتوب إليه في معرفة اللسان العربي فيخاطب كل قوم على قدر رتبتهم في ذلك وما يعرف من فهمهم.
الثالث: كاتب يكتب أهل الدولة وكبرائها وولاتها ووجوهها من النواب والقضاة والكتاب والمشارفين والعمال، وإنشاء تقليدات ذوي الخدم الصغار والأمانات، وكتب الأيمان والقسامات. قال: وهي وإن كانت دون الرتبتين المتقدمتين فهي جليلة الخطر عالية القدر؛ ويجب أن يكون لاحقاً برتب الخدمة منها، وأن يكون مأموناً على الأسرار، كاف اليد، نزه النفس عن العرض الدنيوي؛ لأنه يطلع على أكثر ما يجري في الدولة، ويعلم بالوالي قبل توليه والمصروف قبل صرفه، ويكون مع ذلك سريع اليد في الكتابة، حسن الخط إذ كان هذا الفن أكثر ما يستعمل ولا يكاد يقل في وقت من الأوقات.
الرابع: كاتب يكتب المناشير والكتب اللطاف والنسخ قال: وهذه المنزلة لاحقة بالمنزلة التي قبلها وكأنها جزء منها. ويجب أن يكون هذا الكاتب مأموناً كتوماً للسر؛ فيه من الأدب ما يأمن معه من الخطإ واللحن في لفظه وخطه، ويكون حسن الخط أو بالغاً فيه القدر الكافي. ولكن لما كان هذا الشغل واسعاً وهو أكثر عمل الديوان والذي لا ينفك منه، لم يكد يستقل به رجل واحد فيحاج إلى معاضدته بآخر يكون دونه في المنزلة، ويجعل برسم تسطير المناشير والفصول المتقدمة إلى المقيمين بالحضرة، وكتابة تذاكر المستخدمين، ونقلها مما يمليه صاحب الديوان ويصدر عنه في نسخ تكون مخلدة فيه لا تغادر المبيضة بحرف لتكون موجودة متى احتيج إليها.
الخامس: كاتب يبيض ما ينشئه المنشئ مما يحتاج إلى حسن الخط كالعهود والبيعات ونحوها. قال الصوري: لما كانت البلاغة التامة التي يصلح صاحبها للإنشاء وحسن الخط قلما يجتمعان في أحد، وجب أن يختار للديوان مبيض برسم الإنشاءات والسجلات والتقليدات، ومكاتبات الملوك، وأن يكون حسن الخط إلى الغاية الموجودة بحيث لا يكاد يوجد في وقته أحسن خطاً منه لتصدر الكتب عن الملك بالألفاظ الرائقة والخط الرائع؛ فإن ذلك أكمل للملكة، وأكثر تفخيماً عند من يكاتبه وتعظيماً لها في صدره. ويجب أن يكون مع ذلك في الأمانة، وكتمان السر، ونزاهة النفس، على ما تقدم.
السادس: كاتب يتصفح ما يكتب في الديوان قد تقدم أنه لما كان كل واحد ممن تقدم ذكره غير معصوم من السهو والزلل والخطإ واللحن وعثرات القلم. وكل واحد يتغطى عنه عيب نفسه ويظهر له عيب غيره، وكان زمن متولي الديوان أضيق من أن يوفي بكل ما يكتب بديوانه حق النظر. وكان القصد أن يكون كل ما يكتب عن الملك كامل الفضيلة خطا ولفظاً ومعنى وإعراباً حتى لا يجد طاعن فيه مطعناً، وجب أن يستخدم متولي الديوان معيناً يتصفح جميع الإنشاءات والتقليدات والمكاتبات وسائر ما يسطر في ديوانه.
قال أبو الفضل الصوري: وينبغي أن يكون هذا المتصفح عالي المنزلة في اللغة والنحو وحفظ كتاب الله تعالى، ذكياً، حسن الفطنة، مأموناً وأن يكون مع ذلك بعيداً من الغرض والعداوة والشحناء حتى لا يبخس أحداً حقه، ولا يحابي أحداً فيما أنشأه أو كتبه- بل يكون الكل عنده في الحق على حد واحد، لا يترجح واحد منهم على الآخر. وعليه أن يلزم الكتاب بعرض جميع ما يكتبونه وينشئونه عليه قبل عرضه على متولي الديوان؛ فإذا تصفحه وحرره كتب خطه فيه بما يعرف رضاه عنه ليلتزم بدرك ما فيه ويبرأ منشئه.
السابع: كاتب يكتب التذاكر والدفاتر المضمنة لمتعلقات الديوان قال الصوري: ويجب أن يختار لذلك كاتب مأمون، طويل الروح، صبور على التعب؛ قال: والذي يلزمه من متعلقات الديوان أمور: أحدها- أن يضع في الديوان تذاكر تشتمل على مهمات الأمور التي تنهى في ضمن الكتب، ويظن أنه ربما سئل عنها أو احتيج إليها، فيكون استخراجها من هذه التذاكر أيسر من التنقيب عليها والتنقير عنها من الأضابير. قال: ويجب أن تسلم إليه جميع الكتب الواردة بعد أن يكتب بالإجابة عنها ليتأمل وينقل منها في تذاكره ما يحتاج إليه، وإن كان قد أجيب عنه بشيء نقله، ويجعل لكل صفقة أوراقاً من هذه التذاكر على حدة، تكون على رؤوس الأوراق علامات باسم تلك الصفقة أو الجهة، ويكتب على هذه الصفقة فصل من كتاب فلان الوالي، أو المشارف، أو العامل: - ورد بتاريخ كذا- مضمونه كذا- أجيب عنه بكذا- أو لم يجب عنه- إلى أن تفرغ السنة يستجد للسنة الأخرى التي تتلوها تذكرة أخرى. وكذلك يجعل له تذكرة يسطر فيها مهمات ما تخرج به الأوامر في الكتب الصادرة لئلا تغفل ولا يجاب عنها؛ وتكون على الهيئة المتقدمة من ذكر النواحي وأرباب الخدم. وإذا ورد جواب عن شيء مهم نزل عنده فيقول: ورد جوابه عن هذا الفصل بتاريخ كذا، يتضمن كذا، فإنه إذا اعتمد هذا وجد السلطان جميع ما يسأل عنه حاضراً في وقته غير متعذر عليه.
الثاني- أن يضع في الديوان دفتراً بألقاب الولاة وغيرهم من ذوي الخدم، وأسمائهم، وترتيب مخاطباتهم؛ وتحت اسم كل واحد منهم كيف يخاطب: بكاف الخطاب أو هاء الكناية، ومقدار الدعاء الذي يدعى له به في السجلات والمكاتبات والمناشير، والتوقيعات: لاختلاف ذلك في عرف الوقت؛ وكذلك يضع فيه ألقاب الملوك الأباعد والمكاتبين من الآفاق وكتابهم وأسماءهم، وترتيب الدعاء لهم، ومقداره. ويكون هذا الدفتر حاضراً لدى كتاب الإنشاء ينقلون منه في المكاتبات ما يحتاجون إليه: لأنه ربما تعذر حفظ ذلك عليهم، ومتى تغير شيء منه كتبه تحته. ويكون لكل خدمة ورقة مفردة فيها اسم متوليها ولقبه ودعاؤه، ومتى صرف كتب عليه صرف بتاريخ كذا، واستخدم عوضاً منه فلان بتاريخ كذا وأجري في الدعاء على منهاجه، أو زيد كذا أو نقص. ولا يتغافل عن ذلك: فإنه متى أهمل شيء من ذلك زل بزلله الكتاب وصاحب الديوان بل والسلطان نفسه.
الثالث- أن يضع بالديوان دفتراً للحوادث العظيمة وما يتلوها مما يجري في جميع المملكة، ويذكر كلاً منها في تاريخه؛ فإن المنفعة به كثيرة حتى إنه لو جمع من هذين الدفترين تاريخ لاجتمع.
الرابع، أن يعمل فهرستاً للكتب الصادرة والواردة مفصلاً مسانهة ومشاهرة ومياومة، ويكتب تحت اسم كل من ورد من جهته كتاب ورد بتاريخ كذا، ويشير إلى مضمونه إشارة تدل عليه أو ينسخه جميعه إن دعت الحاجة إلى ذلك، ويسلمه بعد ذلك إلى الخازن ليتولى الاحتفاظ به على ما سيأتي ذكره.
الخامس- أن يعمل فهرستاً للإنشاءات، والتقاليد، والأمانات، والمناشير وغير ذلك مشاهرة في كل سنة بجميع شهورها؛ وإذا انقضت سنة استجد آخر، وعمل فيه على مثل ما تقدم.
السادس- أن يعمل فهرستاً لترجمة ما يترجم من الكتب الواردة على الديوان بغير اللسان العربي من الرومي والفرنجي وغيرهما مصرحاً بمعنى كل كتاب ومن ترجمه على ما تقدمت الإشارة إليه. قال الصوري: فإذا روعيت هذه القوانين أنضبطت أموره ولم يكد يخل منه شيء، وكان جميع ما يلتمس منه موجوداً بأيسر سعي في أسرع وقت.

.الضرب الثاني: غير الكتاب:

وهما اثنان:
أحدهما: الخازن:
قال الصوري ينبغي أن يختار لهذه الخدمة رجل ذكي عاقل مأمون بالغ في الأمانة والثقة ونزاهة النفس وقلة الطمع إلى الحد الذي لا يزيد عليه: فإن زمام جميع الديوان بيده؛ فمتى كان قليل الأمانة ربما أمالته الرشوة إلى إخراج شيء من المكاتبات من الديوان، وإفشاء سر من الأسرار فيضرب بالدولة ضرراً كبيراً. ويجب أن يكون ملازماً للحضور بين يدي كتاب الديوان فمتى كتب المنشئ أو المتصدي لمكاتبة الملوك، أو المتصدي لمكاتبة أهل الدولة، أو لكتابة المناشير وغيرها شيئاً، سلمه للمتصدي للنسخ فينسخه حرفاً بحرف، ويكتب بأعلى نسخة: كتاب كذا، ويذكر التاريخ بيومه وشهره وسنته على ما تقدم في موضعه، ويسلمه للخازن. وكذلك يفعل بالكتب الواردة بعد أن يأخذ خط الكاتب الذي كتب جوابها بما مثاله: ورد هذا الكتاب من الجهة الفلانية بتاريخ كذا، وكتب جوابه بتاريخ كذا. وإن كان لا جواب عنه، أخذ عليه خط صاحب الديوان أنه لا جواب عنه لتبرأ ذمته منه ولا يتأول عليه في وقت من الأوقات أنه أخفاه ولم يعلم به. ثم يجمع كل نوع إلى مثله، ويجمع متعلقات كل عمل من أعمال المملكة من المكاتبات الواردة وغيرها، ويجعل لك شهر إضبارة، يجمع فيها كتب من يكاتب من أهل تلك الأعمال، ويجعل عليها بطاقة مثل أن يكتب: إضبارة لما ورد من المكاتبات بالأعمال الفلانية في الشهر الفلاني ثم يجمع تلك الأضابير ويجعله إضبارة واحدة لذلك الشهر ويكتب عليها بطاقة بذلك ليسهل استخراج ما أراد أن يستخرجه من ذلك. قال: ويجب على هذا الخازن أن يحتفظ بجميع ما في هذا الديوان من الكتب الواردة ونسخ الكتب الصادرة، والتذاكر، وخرائط المهمات، وضرائب الرسوم احتفاظاً شديداً.
الثاني: حاجب الديوان:
قال الصوري: ينبغي لصاحب ديوان الإنشاء أن يقيم لديوانه حاجباً لا يمكن أحداً من سائر الناس أن يدخل إليه، ما خلا أهله الذين هو معذوق بهم، فإنه يجمع أسرار السلطان الخفية فمن الواجب كتمها ومتى أهمل ذلك لم يؤمن أن يطلع منها على ما يكون بإظهاره سبب سقوط مرتبته وإذا كثر الغاشون له والداخلون إليه، أمكن أهل الديوان معه إظهار الأسرار اتكالاً على أنها تنسب إلى أولئك، فإذا كان الأمر قاصراً عليهم احتاجوا إلى كتمان ما يعلمونه خشية أن ينسب إليهم إذا ظهر.
وأما ما استقر عليه الحال في زماننا فكتاب الديوان على طبقتين: الطبقة الأولى: كتاب الدست، وهم الذين يجلسون مع كاتب السر بمجلس السلطان بدار العدل في المواكب على ترتيب منازلهم بالقدمة ويقرأون القصص كما يوقع عليها كاتب السر. وسموا كتاب الدست إضافة إلى دست السلطان وهو مرتبة جلوسه: لجلوسهم للكتابة بين يديه؛ وهؤلاء هم أحق كتاب ديوان الإنشاء باسم الموقعين: لتوقيعهم على جوانب القصص بخلاف غيرهم.
وقد تقدم أنهم كانوا في أوائل الدولة التركية في الأيام الظاهرية بيبرس وما والاها، قبل أن يلقب صاحب ديوان الإنشاء بكاتب السر ثلاثة كتاب، رأسهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، ثم زادوا بعد ذلك قليلاً إلى أن صاروا في آخر الدولة الأشرفية شعبان بن حسين عشرة أو نحوها، ثم تتزايدوا بعد ذلك شيئاً فشيئاً خصوصاً في سلطنة الظاهر برقوق، وابنه الناصر فرج حتى جاوزوا العشرين وهم آخذون في التزايد.
وقد كانت هذه الرتبة لاحقة بشأو كتابة السر في الرفعة والرياسة إلى أن دخل فيها الدخيل، وقدم فيها غير المستحق، ووليها من لا يؤهل لما هو دونها، وأنحطت رتبتها وصار أهلها في الحضيض الأوهد من الرياسة بعد أوجها إلا الأفذاذ ممن علت رتبته وقليل ما هم.
الطبقة الثانية: كتاب الدرج، وهم الذين يكتبون ما يوقع به كاتب السر أو كتاب الدست أو إشارة النائب أو الوزير، أو رسالة الدوادار ونحو ذلك من المكاتبات والتقاليد والتواقيع والمراسيم والمناشير والأيمان والأمانات ونحو ذلك مما يجري مجراه. وسموا كتاب الدرج لكتابتهم هذه المكتوبات ونحوها في دروج الورق، والمراد بالدرج في العرف العام الورق المستطيل المركب من عدة أوصال، وهو في عرف الزمان عبارة عن عشرين وصلاً متلاصقة لا غير. قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب: وهو في الأصل اسم للفعل أخذاً من درجت الكتاب أدرجه درجاً إذا أسرعت طيه وأدرجته إدراجاً فهو مدرج إذا أعدته على مطاويه وأصله الإسراع في حالة، ومنه مدرجة الطريق التي يسرع الناس فيها وناقة دروج إذا كانت سريعة. ويجوز أن يطلق عليهم كتاب الإنشاء لأنهم يكتبون ما ينشأ من المكاتبات وغيرها مما تقدم ذكره؛ ولا يجوز أن يطلق عليهم لقب الموقعين لما تقدم من أن المراد من التوقيع الكتابة على جوانب القصص ونحوها. وكما زاد كتاب الدست في العدد زاد كتاب الدرج حتى خرجوا عن الحد، وبلغوا نحواً من مائة وثلاثين كاتباً، وسقطت رياسة هذه الوظيفة وانحط مقدارها حتى إنه لم يرضها إلا من لم يكن أهلاً، على أن كتاب الدست الآن هم المتصدون لكتابة المهم من كتابة الدرج: كمتعلقات البريد المختصة بالسلطان من المكاتبات والعهود والتقاليد وكبار التواقيع والمراسيم والمناشير، وصار كتاب الدرج في الغالب مخصوصين بالمكاتبات في خلاص الحقوق وما في معناها. وكذلك صغار التواقيع والمراسيم والمناشير مما يكتب في القطع الصغير، وربما شارك أعلاهم كتاب الدست في التقاليد وكبار التواقيع وما في معناهما إذا كان حسن الخط، ولا نظر إلى البلاغة جملة بل كل أحد يلفق ما يتهيأ له من كلام المتقدمين غير مبال بتحريفه ولا تصحيفه مبتهجاً بذلك، مطالعاً لغيره في أنه الذي ابتدعه وابتكره. وكل من لفق منهم شيئاً أو أنشأه كتبه بخطه على أي طبقة كان في الخط، ما خلا عهود السلطنة ومكاتبات القانات من ملوك الشرق فإنه ربما انتخب لها أعلى أهل الزمان خطاً، تنويهاً بذكرها، ورفعة لقدرها.
أما كتابة التذاكر والدفاتر فقد كان الأمر مستمراً في بعضها ككتابة ما في المكاتبات الواردة والصادرة بدفتر في الديوان إلى آخر مباشرة القاضي بدر الدين بن فضل الله في الدولة الظاهرية برقوق، ثم رفض ذلك وترك واقتصر على ما يرد من المكاتبات وما يكتب من الملخصات وكتابة الموقع الذي يكتب الجواب بسد كل فصل تحته ليس إلا وترك ما وراء ذلك، واكتفى من الخازن بدوادار كاتب السر، وصار هو المتولي لحفظ ذلك وإيداعه في الأضابير على نحو ما تقدم؛ وذلك صار أمر حجابة الديوان إليه. ثم للديوان أعوان يسمون المدار جمع مدير، شأنهم أخذ القصص ونحوها وإدارتها على كاتب السر فمن دونه من كتاب الديوان ليكتب كل منهم ما يلزمه من متعلقها ولذلك سموا بهذا الاسم.

.المقالة الأولى بعد المقدمة في بيان ما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من المواد:

وفيه بابان:

.الباب الأول فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العلمية:

وفيه ثلاثة فصول:

.الفصل الأول فيما يحتاج إليه الكاتب على سبيل الإجمال:

وقد اختلفت مقاصد المصنفين في ذلك: فابن قتيبة بعد أن بنى كتابه أدب الكاتب على أمور من اللغة والتصريف وطرف من الهجاء قال: وليس كتابنا هذا لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم، ولا من الكتابة إلا بالرسم، ولم يتقدم من الأداة، إلا بالقلم والدواة: ولكنه لمن شدا شيئاً من الإعراب فعرف الصدر والمصدر، وانقلاب الياء عن الواو، والألف عن الياء، وأشباه ذلك من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين حتى يعرف المثلث القائم الزاوية، والمثلث الحاد، والمثلث المنفرج، ومساقط الأحجار، والمربعات المختلفات، والقسي، والمدورات، والعمودين؛ وتمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر، فإن المخبر عنه ليس كالمعاين. وذكر أن العجم كانت تقول: من مل يكن عالماً بإجراء المياه، وحفر فرض المشارب وردم المهاوي، ومجاري الأيام في الزيادة والنقصان، ودوران الشمس، ومطالع النجوم، وحال القمر في استهلاله واتصاله، ووزن الموازين، وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا، ونصب القناطر، والجسور، والدوالي، والنواعير على المياه، وحال أدوات الصناع، ودقائق الحساب، كان ناقصاً في حال كتابته. ثم قال: ولا بد له مع ذلك من النظر في جمل من الفقه والحديث، ودراسة أخبار الناس، وحفظ عيون الأخبار ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلاً بها إذا كتب، أو يصل بها كلامه إذا حاور. وختم ذلك بأن قال: ومدار الأمر في ذلك كله على القطب وهو العقل وجودة القريحة، فإن القليل معهما بإذن الله تعالى كاف، والكثير مع غيرهما مقصر.
وتابعه أبو هلال العسكري في بعض ذلك فقال في بعض أبواب كتابه الصناعتين: ينبغي أن تعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلات كثيرة، وأدوات جمة: من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ وإصابة المعنى؛ وإلى الحساب، وعلم المساحة، والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلة وغير ذلك مما ليس هذا موضع ذكره وشرحه.
ولا يخفى أن ما ذكره وبعض ما ذكره ابن قتيبة، يتواردان فيه في المعنى واختلف اللفظ. وخالف أبو جعفر النحاس في كثير من ذلك فذكر في أول كتابه صناعة الكتاب في المرتبة الثانية منه بعد ما يتعلق بالخط: أن من أدوات الكتابة البلاغة، ومعرفة الأضداد مما يقع في الكتاب والرسائل والعلم بترتيب أعمال الدواوين، والخبرة بمجاري الأعمال، والدربة بوجوه استخراج الأموال، مما يجب ويمتنع. ثم قال: فهذه الآلات ليس لواحد منها تميز بذاته، ولا انفراد باسم يخصه؛ وإنما هو جزء من الكتابة وأصل من أركانها، أما الفقه والفرائض والعلم بالنحو واللغة وصناعة الحساب والمساحة والنجوم، والمعرفة بإجراء المياه، والعلم بالأنساب فكل واحد منها منفرد على حدته وإن كان الكاتب يحتاج إلى أشياء منها نح ما يكتب بالألف والياء، وإلى شيء من المقصور والممدود. ولو كلف الكاتب ما ذكره من ذكره لجعل الأصعب طريقاً للأسهل والأشق مفتاحاً للأهون وفي طباع الناس النفار عما ألزمهم من جميع هذه الأشياء.
قلت: والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف حال الكتابة بحسب تنوعها، فكل نوع من أنواعها يحتاج إلى معرفة فن أو فنون تختص به.
وقد حكي أن عمرو بن مسعدة وزير المعتصم قال: لما خرج المعتصم من بلاد الروم وصار بناحية الرقة، قال لي: ويلك يا عمرو! لم تزل تخدعني حتى وليت عمر بن الفرج الرخجي الأهواز وقد قعد في سرة الدنيا يأكلها خضماً وقضماً! فقلت: يا أمير المؤمنين فأنا أبعث إليه حتى يؤخذ بالأموال ولو على أجنحة الطير- قال: كلا بل تخرج إليه بنفسك كما أشرت به- فقلت لنفسي: إن هذه منزلة خسيسة، بعد الوزارة أكون مستحثاً لعامل خراج! ولم أجد بداً من الخروج رضاً لأمير المؤمنين- فقلت: ها أنا خارج إليه بنفسي يا أمير المؤمنين! قال: فضع يدك على رأسك واحلف أنك لا تقيم ببغداد، ففعلت وأحدثت عهداً بإخواني ومنزلي وأتي إلي بزورق ففرش لي فيه، ومضيت حتى إذا صرت بين دير هرقل ودير العاقول إذا شاب على الشط يقول: يا ملاح! رجل غريب يريد دير العاقول فاحملني يأجرك الله!- فقلت: يا غلام قرب له- فقال: جعلت فداك! يؤذيك ويضيق عليك- فقلت: قرب له لا أم لك! فقرب له وحمله على مؤخر الزورق. وحضر الطعام، فهممت أن لا أدعوه إلى طعامي، ثم قلت: هلم يا فتى، فوثب وجلس، فأكل أكل جائع لهم إلا أنه نظيف الأكل؛ فلما فرغ من الطعام أحببت أن يفعل ما يفعل العوام فيتنحى ويغسل يديه ناحية فلم يفعل، فغمزه الغلمان ليقوم فلم يفعل، فتناومت عمداً لينهض فلم يفعل، فاستويت جالساً وقلت يا فتى! ما صناعتك؟ فقال جعلت فداك! أنا حائك. فقلت في نفسي: أنا والله جلبت هذه البلية، وتغير لوني، ففطن أني استثقلته، فقال: جعلت فداك! أنك قد سألتني عن صناعتي فأجبتك، فأنت ما صناعتك؟ فقلت: هذه والله أضر من الأولى ألا ينظر إلى غلماني ونعمتي فيعلم أن مثل هذا لا يسأل عن الجرفة؟ ولم أجد بداً من الجواب، فلم أذهب إلى المرتبة العظمى من الوزارة لكني قربت عليه، فقلت: أنا كاتب- فقال: جعلت فداك! الكتاب خمسة فأيهم أنت؟ فأورد علي ما لم أسمع به قبل- فقلت: بينهم لي- قال نعم، هم كاتب رسائل يحتاج إلى أن يعرف المفصول والموصول، والمقصور والممدود، والابتداء والجواب؛ حاذقاً بالعقود والفتوح- قلت: أجل وماذا؟ قال: كاتب خراج يحتاج أن يعرف السطوح والمساحة والتقسيط،، خبيراً بالحساب والمقاسمات. قلت: وماذا؟ قال: كاتب قاض يحتاج أن يعرف الحلال والحرام، والتأويل والتنزيل، والمتشابه والحدود القائمة والفرائض، والاختلاف في الأموال والفروج- حافظاً للأحكام، حاذقاً بالشروط- قلت: وماذا؟ قال: وكاتب جند يحتاج أن يعرف الحلى والشيات- قلت: وماذا؟ قال: وكاتب شرطة يحتاج أن يعرف القصاص والجراحات، وموضع الحدود، ومواقع العفو في الجنايات- قلت حسن. قال: فأيهم أنت؟ فكنت متكئاً فاستويت جالساً متعجباً من قوله، فقلت: أنا كاتب رسائل- قال: فإن أخاً من إخوانك واجب الحق عليك معتنياً بأمورك لا يغفل منها عن صغير ولا كبير يكاتبك في كل محبوب ومكروه وأنت له على مثل ذلك تزوجت أمه كيف تكتب إليه؟ أتهنيه أم تعزيه؟- قلت أهنيه. قال فهنه فلم يتجه لي شيء- فقلت: لا أعزيه ولا أهنيه، فقال: إنك لا تغفل له عن شيء ولا تجد بداً من أن تكتب إليه- فقلت: أقلني فأنا كاتب خراج- قال: فإن أمير المؤمنين وجه بك إلى ناحية من عمله، وأمرك بالعدل والإنصاف، وأنك لا تدع شيئاً من حق السلطان يذهب ضياعاً، وحذرك الظلم والجور، فخرجت حتى قدمت الناحية فوقفوك على قراح أرض خطه قابل قسياً كيف تمسحه- قلت: آخذ وسطه وآخذ طوله فأضربه فيه- قال: تختلف عليك العطوف- قلت: آخذ طوله وعرضه من ثلاثة مواضع- قال: إن طرفيه محدودان وفي تحديده تقويس وذلك يختلف- فأعياني ذلك- فقلت: أقلني فأنا كاتب قاض- قال: فإن رجلاً هلك وخلف زوجة حرة وسرية حاملتين فوضعتا في ليلة واحدة وضعت الحرة جارية، ووضعت السرية غلاماً، فوضعت الجارية في مهد السرية، فلما أصبحت السرية قالت الغلام لي، وقالت الحرة بل هو لي كيف تحكم بينهما؟- قلت: لا أدري فأقلني، فأنا كاتب جند، قال: فإن رجلين من أصحاب السلطان أتياك اسمهما واحد، وأحدهما مشقوق الشفة العليا، والآخر مشقوق الشفة السفلى، ورزق أحدهما مائة والآخر ألف كيف تحليهما؟- قلت: فلان الأعلم وفلان الأعلم، قال: إذن يجيء هذا ورزقه مائة فيأخذ الألف، ويجيء هذا ورزقه ألف فيأخذ المائة- قلت أقلني: فأنا كاتب شرطة، - قال: فإن رجلين تواثبا فشج أحدهما صاحبه موضحة، وشجه الآخر مأمومة كيف يكون الحكم فيهما؟- قلت: لا أدري فأقلني، قال فقلت: إنك قد سألتني فبين لي- قال نعم. أحدهما صاحبه موضحة، وشجه الآخر مأمومة كيف يكون الحكم فيهما؟- قلت: لا أدري فأقلني، قال فقلت: إنك قد سألتني فبين لي- قال نعم.
أما الذي تزوجت أمه فتكتب إليه: أما بعد فإن الأمور تجري على غير محاب المخلوقين والله يختار لعباده، فخار الله لك في قبضها إليه فإن القبور أكرم الأكفاء والسلام. وأما القراح من الأرض، فإنك تمسح اعوجاجه حتى تعلم كم قبضة تكون فيه فإذا استوى في يدك عقد تعرفه ضربت طرفه في وسطه. وأما الحرة والسرية فيوزن لبنهما فأيهما كان لبنها أخف فالبنت لها. وأما المشقوق الشفة العليا فأعلم والمشقوق الشفة السفلى فأفلح. وأما المأمومة ففيها ثلث الدية وهي ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث. وأما الموضحة ففيها خمس من الإبل؟. فقلت: ألست تزعم أنك حائك، فقال: أنا حائك كلام لا حائك نساجة. قال عمرو بن مسعدة: فأحسنت جائزته واستصحبته معي حتى عدت إلى المعتصم، فسألني عما لقيت في طريقي، فقصصت عليه القصة فأعجب به وقال: لم يصلح؟ فقلت: للعمائر. فقرره فيها وعلت رتبته، فكنت ألقاه في الموكب النبيل فيترجل لي فأنهاه، فيقول: هذه نعمتك وأنت أفدتها.
فقد تبين بهذه الحكاية أن لكل نوع من الكتابة مادة يحتاج إليها بمفردها، وآلة تخصها لا يستغنى عنها.
على أن كاتب الإنشاء في الحقيقة لا يستغني عن علم ولا يسعه الوقوف عند فن، فقد قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر إن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة فما ظنك بما فوق هذا وذلك! لأنه مؤهل أن يهيم في كل واد، فيحتاج إلى أن يتعلق بكل فن. بل قد قيل إن كل ذي علم يسوغ أن ينسب إليه، فيقال فلان النحوي، وفلان الفقيه، وفلان المتكلم، ولا يجوز أن ينسب المتعلق بالكتابة إليها، فلا يقال فلان الكاتب لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن.
واعلم أن كاتب الإنشاء وإن كان يحتاج إلى التعلق بجميع العلوم والخوض في سائر الفنون فليس احتياجه إلى ذلك على حد واحد بل منها ما يحتاج إليه بطريقة الذات وهي مواد الإنشاء التي يستمد منها ويقتبس من مقاصدها: كاللغة التي منها استمداد الألفاظ، والنحو الذي به استقامة الكلام، وعلوم البلاغة: من المعاني والبيان والبديع التي هي مناط التحقيق والتحسين والتقبيح ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى. وعلى هذا اقتصر الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر وتبعه على ذلك الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل. ومنها ما يحتاج إليه بطريق العرض كالطب والهندسة والهيئة ونحوها من العلوم؛ فإنه يحتاج إلى معرفة الألفاظ الدائرة بين أهل كل علم، وإلى معرفة المشهورين من أهله ومشاهير الكتب المصنفة فيه لينظم ذلك في خلال كلامه فيما يكتب به من متعلقات كل فن من هذه الفنون كالألفاظ الدائرة بين أهل الطب ومشاهير أهله وكتبه فيما يكتب به لرئيس الطب، ونحو ذلك من الهيئة فيما يكتب به لمنجم، ونحوه من الهندسة فيما يكتب به لمهندس. وربما احتاج إلى معرفة ما هو دون ذلك في الرتبة كمعرفة مصطلح رماة البندق فيما يكتب به في قدمات البندق، ومعرفة مصطلح الفتيان فيما يكتب به في دسكره فتوة ونحو ذلك، بل ربما احتاج إلى معرفة مصطلح سفل الناس لكتابة أمور هزلية: كمعرفة أحوال الطفيلية فيما يكتب به لطفيلي اقترحاً أو امتحاناً للخاطر أو ترويحاً للنفس، والشجعان، والجواري والغلمان، والخيل والإبل، وجليل الوحش وسائر أصنافه، وجوارح الوحش والطير، وطير الواجب، والحمام الهدي، وسائر أنواع الطير؛ والسلاح بأنواعه؛ وآلات الحصار، والآلات الملوكية، وآلات السفر، وآلات الصيد، وآلات المعاملة، وآلات اللهو والطرب، وآلات اللعب، وآلات الشربة؛ والمجدن، والحصون؛ والمساجد، وبيوت العبادات؛ والرياض، والأشجار، والأزهار، والثمار؛ والبراري، والقفار والمفاوز، والجبال، والرمال، والأودية؛ والبحار، والأنهار، وسائر المياه؛ والسفن، والكواكب، والعناصر، والأزمنة، والأنواء، والرياح، والمطر، والحر، والبرد، والثلج، وما يتعلق بكل واحد من هذه الأشياء أو ينخرط في سلكه؛ ونحو ذلك مما تدعو الحاجة إلى وصفه في حالة من حالات الكتابة على ما سيأتي بيانه في آخر الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله تعالى.